وسام عبدالمجيد تكتب .. إلى« ليلى »
وسام عبدالمجيد تكتب .. إلى« ليلى »
فى حي المنصور، في العراق الشقيق، كان هناك فنانة جميلة وكانت تلقب بأميرة الصمت… هي ليلى، فنانة تشكيلية عراقية،ظهرت موهبتها منذ الطفولة… في ١٩٦٥ ألتحقت الفتاة العراقية بكلية الفنون في بغداد وكانت من الأوائل على أقرانها… شغلت ليلي عدة مناصب فى مجال الثقافة والفن نظراً لموهبتها المتألقة وتدرجت في المناصب حتى أصبحت مديرة مركز الفن الوطني (الآن المتحف العراقي للفن الحديث) ومديراً عاماً لدائرة الفنون ومديراً لمركز صدام للفنون وقاعة بغداد و قاعة الرواق…
كانت ليلي تمتلك ريشة معبرة و لديها شخصية فنية ورؤية حقيقة خاصة فيما هو مرتبط بالهوية الثقافية. المعروف أنها تجيد فن التعامل مع الألوان والظلال والأبعاد كعازف يحتضن قيثارته ليقدم أعذب الألحان.. تتمتع بجذورها الوطنية والعربية ، فضلاً عن استشرافاتها المستقبلية… أقامت ليلي عدة معارض داخل العراق وخارجها، وكانت عضواً نقابياً بارزاً في جمعية الفنانين العراقيين، وأحرزت العديد من الجوائز التقديرية في الكويت والبحرين ومصر وغيرها من الدول.
تألقت بطلة قصتنا في مطلع التسعينيات كفنانة قدمت الكثير من خلال لوحاتها التي كانت ولا زالت في ذاكرة الجمهور.
تزوجت ليلى العطار من عبد الخالق جريدان فسكنت في منطقة الكاظمية، وبعد سنوات استقرت في منطقة المنصور مرة أخرى، ولكن هذه المرة في شارع الأميرات، حيث كان منزلها بالقرب من جهاز المخابرات العامة العراقية السابق.
وفي 27 / 6 / 1993 قبيل الفجر استيقظت منطقة المنصور على أصوات انفجارات هائلة وقصف جوي صاروخي استهدف بيت ليلى العطار فدكه , سقطت ليلي وزوجها ومربية أولادها صرعى، وأصيبت ابنتها زينب بفقدان البصر… شيعت العائلة الجنازة فى مشهد مهيب نحو مثواهم الأخير فى بغداد.
ظل الحادث محل جدل فى الأوساط العربية والعالمية. أوضحت صديقتها وأختها سعاد العطار أنه كان يبدو علي ليلى فى الأيام الأخيرة الإرتباك والحزن، وهذا ما ظهر علي لوحاتها الأخيرة وأشارت إلى أن ليلى كانت تجلس شاردة حزينة وتقضي فترات طويلة في عملها.
قدمت تفاسير كثيرة لهذه الواقعة ، وصرح النظام في ذلك الوقت أن السبب أنها رسمت لوحة لبوش الأب على أرضية فندق الرشيد وهو أهم وأشهر الفنادق في بغداد، وكان هذا الفندق أهم نزل للوفود الأجنبية ولجان التفتيش الخاصة بالأمم المتحدة التي كانت تأتي إلى العراق بعد فرض الحصار الأمريكي، وقيل أن هذا هو ما أثار حفيظة القيادة الأمريكية فانتقمت واعترض البعض علي هذه التكهنات لكن ذلك ما صرحت به المؤسسات الرسمية في العراق .
وقال آخرون أن سبب الاغتيال هو أن جهاز المخابرات العامة العراقي كانت يدبر لإغتيال بوش الأب أثناء زيارته إلي الكويت وعلمت بذلك الولايات المتحدة بعدها صدر قرار من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون فى ذلك الوقت بتوجيه ضربات نحو مبني المخابرات العامة وهذا ما أعلنته الصحف الإمريكية وجاءت الضربة خاطئة نحو بيت ليلي، واعترض البعض ما نشرته الصحف الأمريكية علي اعتبار أن الضربات أصابت خمسة أفراد وبيتها وبعض الإصابات الحقت بمحيط البيت الذي كانت تسكنه ليلى.
ورجح البعض أنه في فترة ما أسند جهاز المخابرات العراقي إلي ليلى تبني مشروع وطني للحفاظ علي المقتنيات والمخطوطات و غيرها من تراث العراق حفاظاً علي الهوية، خاصة أن ليلي كانت مديرة المتحف، وجاء هذا الأمر بالتزامن مع ظروف الحرب التي كانت تعيشها العراق من حرب الكويت وقبلها حرب إيران، وفرض الحصار وهجرة العديد من المثقفين والفنانين إلي الخارج ،وربما كان ذلك السبب هو الأرجح .
بعد واقعة إغتيال ليلي العطار بأكثر من 10 سنوات سقطت بغداد , حيث يأتي الزمان خير شاهد ودليل بعد احتلال العراق. كان أول ما تم الإستيلاء عليه هو المتاحف والقصور الرئاسية ,وبعدها قامت الجماعات الإرهابية بالتربص بالمدن الثقافية القديمة والتفاني فى تدميرها ومنها مدينة الرشيد وسمراء والبصرة وغيرها…
وأما ما تم إنقاذه من قبل بعض المواطنين فقد تم استهدافهم فيما بعد من قبل فرق المارينز وغيرها من الجماعات المسلحة، ناهيك عن قائمة الاغتيالات الطويلة من العلماء خاصة الذين اعتبرتهم أمريكا موالين لنظام صدام حسين، وكانوا من خيرة العلماء في مجال العلوم والصناعة والهندسة والطب والفنون حتي أشارت بعض الإحصائيات أنه تم إغتيال مايزيد عن 3000 الف عالم عراقي!!!…
لتعلم أجيال تنكرت لهويتها العربية والإسلامية أن وراء ذلك الإنحدار والتراجع الفكري والثقافي والفني الذي وصل الحال إليه من فقدان الذوق العام في المباني والموسيقي والفنون في منطقتنا العربية بأكملها… أيادي أثمة تغلغت داخل المجتمعات لتكسر وتهشم أركان الهوية من لغة وفنون وآداب وعمارة وتاريخ وهوية وحضارة وانتماء… إنه اغتيال لشخصية الأمة ومحاولة اجتثات لجذورها الحضارية في صمت وفي علن…
رحم الله ليلى العطار الإنسانه والفنانة والمعنى والرمز والدلالة….
ولنتذكر ما حدث مع عالم الآثار الكبير خالد الأسعد في سوريا -والذى سوف نتحدث عنه فيما بعد – وعن استشهاده وموقفه البطولي…
ليلحق بالقائمة تاريخ طويل ، منها ماحدث مؤخراً من إغتيال أكثر من 150 مشروع عالم من حاملي شهادة الدكتوراه في قطاع غزة بما فيهم رئيس الجامعة الإسلامية والعديد من أساتذة الجامعة، ومن جامعة الأزهر، والذين قتلتهم إسرائيل إدراكا لقيمتهم وأهميتهم وتأكيدا على كل معاني الحقد والكراهية ضد شعبنا العربي في كل مكان وزمان…
وفي ذكرى استشهاد ليلي العطار المعروفة بالجميلة الرقيقة والتى كانت أيقونة لقصائد الشعر في بغداد الحزينة، ندعو الله لها بالمغفرة والرحمة جزاء لما قدمت وأبدعت وناضلت…
وليعلم الجميع أن حرب المسخ أو محو الهوية قائمة ومشتعلة لصالح هيمنة العولمة الأمريكية، وهنا تكون الرسالة واضحة
حافظوا علي تراثكم هويتكم وحضارتكم ولا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكية، وتذكروا اغتيال ليلى، أو بالأحرى، أحلام ليلي!!!…