د الفاتح كامل
تأتيني أخبارها بصورة متقطعة، تلك التي أغرتها روائح الدكتوراه هيا بنا يا حبيبي نتدثر باللحاف، فالبرد قارس بالخارج.
أحبته، حامل منه الآن في طفلها الأول. مالك أنت يا حبيبتي ورائحة الثياب الملطخة بالشحوم…
تواق أنا للقائك الليلي، لذلك أسرعت من المقهى رغم أن الدفء كان يغمره، وأنا في هذه الأيام أشد حاجة للدفء أكثر من أي وقت مضى، خطواتي على الطريق كانت تنبئ عن لهفتي لك. ما زلت أسمع وقعها على الشارع المترب.
ثلاثة أعوام منذ أن إفترقنا، وتمثال الجبس اللامع يقف قبالتي بشفتيه المنفرجتين بنظام يحسد عليه وسط فوضى الغرفة الشاملة. أهدتني إياه ليلة سفرها. أين توقفنا، هيا بنا يا حبيبي نكمل حديثا البارحة، أظن عند عدد الأطفال. حسن إن كنت لا تريد الحديث اليوم. هة قد صمت، مالك اليوم لا ترد. لعلك تعبت من حديث ليلة أمس العاصفة. لا ولكن لن أرضخ لرأيك. يكفينا سامي وماهي تتويجا لحبنا.
أهدتني إياه ليلة سفرها، ثلاثة أعوام وعلاقتي معه حميمة جدا، كبرنا معا وكبرت معنا بالتبعية أحلامنا…
أحلامي وأحلام التمثال ربما توقفت عند حد فتح ورشة لإصلاح العربات. وأحلامها لم تتوقف.
كل الذين من حولي يجمعون على أنني أسطى ماهر. سافرت هي لأمريكا لنيل درجة الدكتوراه، في ماذا لا أدري. لكنني لم أحس قط بأن طموحها يقف عائقا أمام حبنا إلا هذه الأيام. خطاباتها كانت تصلني بإنتظام. ما بالها الآن لا تصل بالصورة التي عليها في السابق. لعل أعباء الدراسة زادت عليها.
تعرفت عليه في الجامعة… آسفة لعدم الكتابة لإنشغالي الدراسي. خطاباتها أضحت مقتضبة. لعل خيرا الكلام ما قل ودل. تبرير عزائي فيما أظن.
مبعوث هو لدراسات عليا أظنها الدكتوراه، عليها اللعنة. في أي علم لا أدري… أكملت الدراسة لكني محتاجة لوقت آخر حتى نقدر الإرتباط…
تزوجته هو لا أنا. ثم إنقطعت عني أخبارها… لم تعد تهمني. تبرير عزائي آخر للنفس المكلومة بفعل الهجر والبعد وأشياء أخرى…
لكن محاوراتي مع التمثال لم تزل وإن لم تعد بحرارتها السابقة. وأنا كل يوم أهرع للمنزل للقائه بإنتظام. أحاول إكمال البيت الذي بدأت. ولكن على أنقاض أحلامي.
الورشة قد كبرت، كانت تنبئني بذلك أرتال العربات المصفوفة بجانبي الطريق. ثم أنني إستعنت بصبيين جديدين.
لم تعد ذكراها تؤرقني كالسابق، لكن طيفها حين مرور عامل البريد يداعبني… يذكرني بخطاباتها التي كانت تصل بإنتظام…
مالك أنت يا حبيبتي والحب وسط العرق وبرادة الحديد؟.
أحلام التمثال ما عادت تكبر. كل يوم حين أدخل الغرفة يذكرني وجهه بمشاكساتي السابقة معه. وكأنه يمد لسانه عندما أدير له ظهري، ضاحكا من حسن نيتي، عفوا غفلتي.
بعد يوم عمل شاق طويل عدت أدراجي الغرفة. مررت على المقهى كالمعتاد. لم يعد لي أنيس غيره، حتى عوامل الزمن زحفت علي وغطت طيف المرح الذي كان يلوح على جبيني. أطفأت النور وولجت الفراش. نظرات التمثال التي لمعت رغم الظلام، بشفتيه المنفرجتين، كأنها تضحك من غفلتي. لم أدر له وجهي هذه المرة قمت من السرير رغم الدفء، أضأت النور وأدرت وجهه للحائط. ظهره اللامع الصقيل سابقا، بدت عليه ملامح التشقق والتعرية.
عدت أجرجر أقدامي للسرير. تدثرت باللحاف فالبرد قارس بداخلي… واستغرقت هذه المرة في نوم عميق…
من مجموعتي القصصية الخيول
صمم الغلاف الفنان التشكيلي بدر الدين محمد النور